الأثر المابعد حداثيّ، والسلطة
ينزع النقاد إلى القول بأنّ تيار ما بعد الحداثة يعتمد على الانتقال من أحاديّة الحقيقة إلى تعدّدها وتداخلها وصراعات الرؤى فيها، تلك التي تقوم على فرديّة مطلقة ومتذرّرة، أو بحسب براين ماكهايل في كتابه"المتخيّل الما بعد حداثيّ" :"الانتقال من المنظوريّة التي تسمح للحداثيّ أن يبرز على نحو واضح حقيقة معقّدة، ولكنّها تظلّ أحاديّة في النهاية، إلى حقل متقدّم من الأسئلة حول قدرة الحقائق المختلفة جذريًا على التعايش والاصطدام والتداخل.". وهو ما يرد على لسان إحدى شخصيّات لويس بروخيس:" من أكون؟ ذاتي اليوم، الحائرة، إنسان الأمس، المنسي، إنسان الغد، الذي لا يمكن توقعه؟".
يمكننا تتبّع ذلك التحوّل من المركزيّة الحداثيّة، إلى التشظّي الما بعد حداثيّ، بشكل جليّ في السرد السينمائيّ لفيلم Head On (2004) (121 دقيقة) للمخرج التركي/الألماني Fatih Akin، وهو ما يجعل في نهاية السرد السينمائيّ عمليّة حسم المتلقي/العين الثالثة لموقفه من الحبكة والشخصيّات، أمرًا صعبًا، وبالذات في ظلّ تعدّد العُقَد( جمع "عقدة"، وهي تكثّف المشكلة أو المعضلة التي تعانيها الشخصيّات خلال السرد والحبكة) بقدر الشخصيّات واشتباكاتها وتشظّياتها، إذ أنّ تلك العُقد تتجمع في النهاية لتُلقى إلى المتلقي\\ة، دون تمام إجابة عليها، وتلك صفة ما بعد حداثيّة بامتياز، تنبني على فقدان الثقة في العقل الحداثيّ وحسمه في المقاربات.
وبرغم تلك البنية الما بعد حداثيّة للسرد/الفيلم ها هنا، وما تحمله من إغراءات تحليليّة وتأمليّة، إلا أنّ السرد يمثل ديباجة جندريّة، تتصارع فيها وتتجلّى القوى الجندريّة وسلطتها وتداعياتها النفسيّة والاجتماعيّة و الجنسيّة، وصولًا( حتّى) إلى تشكّل الأجساد وهندستها وعلاقاتها الماديّة والمعنويّة بذواتها وبالآخر.
قبل الخوض في بنيويّة تلك العلاقات الجندريّة، ثمة حاجة لتفكيك مفهوم السلطة، حتّى نتمكّن من بناء حيّز تحليليّ لتلك العلاقات المجندرة، فالسلطة، لابدّ لها– عضويًا- أن تنبني على:
1. مركز: تنبثق منه الأنا العليا، وآليّات الهيمنة، ويتحدّد من خلاله كامل القيم المستخدمة لبناء منظومات الأحكام والتعاريف.
2.طرف: تقع عليه آثار" آخرويّة" الذات/المركز، ويكون من خلاله تعريف المركز، وهو موضوع الهيمنة.
3.سياق: وهو النسق الحاوي لكلا الطرفين، متضمّنا علاقات الإنتاج، وقد يكون: المجتمع، الثقافة، العائلة، الزواج، الجماعة...
4. العنف: وهو مظهر الهيمنة هنا، وبنيتها، ونعني مختلف تجليّاته الناعمة والصلبة، الماديّة والمتجاوزة.
بهذه البنية تغدو السلطة استراتيجيّة هيمنة وتعريف وموضعة للمركز والآخر ضمن سياق يضمن علاقات الإنتاج التبادليّة المنفعيّة الحاصلة بين الطرفين، باستخدام مختلف أنماط العنف، وهو مايتطلبه تيّار الما بعد حداثة باعتباره تيّارًا قائمًا على التفكيك والتكسير والهدم.
صفقة بين أجساد مهزومة
تدور أحداث الفيلم بين ألمانيا وتركيا، ويحكي السرد/الفيلم قصّة شاب يدعى" شاهيت" (الممثل: Birul Aunel) وفتاة "سيبيل" (الممثلة: Sibil Kekilli )، تربطهما قصة حب معقدة في ظروف استثنائيّة عدميّة للطرفين، تكاد( الظروف) أن تصل بكليهما إلى الانتحار، حيث يبدأ السرد بالشاب الذي خسر حبيبته( ولا يُذكَر للمتلقي كيف كان ذلك)، فتبدأ حالته بأن تسوء دافعة به إلى مصحّة نفسيّة( والتي هي مؤسّسة قمعيّة بالمنطق الفوكويّ)، بعد فشله بالانتحار، وهناك يتعرّف إلى الفتاة" سيبيل" التي حاولت الانتحار أيضًا، هربًا من ضغوط مؤسّسة أخرى وهي" العائلة" القائمة على سلطة الذكور( أباها وأخاها)، فتعرض عليه" صفقة" بسيطة، تقوم على أن يتقدّم للزواج منها، على ألّا يكون ملزمًا بأيّ واجب زوجيّ من أيّ نوعٍ كان، فقط ليخلّصها من هيمنة أهلها على حياتها وجسدها، في مشهد الحانة مثلًا، ثمة رمزيّة مكثّفة، حينما تدعو" سيبيل" "شاهيت" للمس جسدها، وكأنها تريد إبدال سيطرة ذكر بذكر على جسدها، وبالذات حين تحدّثه عن أنفها الجميل، وكيف أنّ أخاها كسره ذات مرة لأنّه رآها تمسك يد "ذكر شاب" آخر، وحين يرفض "شاهيت"، تقرّر بردّ فعل سريع وشديد العنف، بأن تفني هذا الجسد بأن تقطع شرايينها في لحظتها، في مشهد شديد العنف، وكأنها تقول أنّ بقاء الجسد، ليس مرهونًا بذاته، بل هو مرهون فقط بالذكر المالك له.
بصفقة بديلة عن صفقة الأبوة والأخوة في مؤسّسة العائلة التي هي لبّ نواة مؤسّسة أكبر وهي الجالية "الجماعة المتخيّلة" في المهجر.
كانت تلك الصفقة أولى أدوات التعامل( وليس المواجهة ولا المقاومة) مع السلطة الجندريّة الذكوريّة، فبها تتعامل "سيبيل" مع هيمنة جندريّة مركّبة لا تتعلق فقط بالعائلة، بل بالسياق الاجتماعي والاقتصاد السياسيّ للأقليّة التركيّة في المهجر، فـ"سيبيل" تنحدر من عائلة تركية، يمثّل فيها الذكر المركز، ويؤكد ذلك عدّة شواهد، كأن يهدّدها أخاها بالقتل إن تسببت بأذى لوالدها، في محاولة لتأكيد موقعة المركز/المذكر على حساب الطرف/المؤنث، أو حينما زار "الزوجان" عائلة "سيبيل"، كان الفصل الجندريّ واضحًا بين الذكور والإناث، وحالة المقارنة في السرد بين حديث الذكور عن الجنس، وحديث الإناث عنه، راسمين حدود الحيّزين؛ العامّ والخاصّ، وحالات الفصام البينيّ، كأن يعرض أحدهم على "شاهيت" الذهاب إلى بيت دعارة للـ"مضاجعة"، في حين تستفزه فكرة الحديث عن المضاجعة وزوجته، ودخول إحدى الزوجات في تلك اللحظة (والتي لم نعرف زوجة أي فرد من العائلة هي) وحالة الإنكار التي أصابت الذكور لحين رحيلها، تشي بكمّ الفصام الذكوريّ والجنوسيّ الذي يعيشه المركز/الذكر المهيمن.
الأب والأخ هما العتبتان الأوليّتان لسلطة النوع الاجتماعي( الجندر) في سياق العائلة، فالأمّ صامتة سلبيّة لا موقع فاعل لها على طول السرد، وهكذا أُريدَ لابنتها، ثمّ العتبة الثانية وهي" الجماعة المتخيّلة"، القائمة أيضًا على ذكر آخر، فـ"سيبيل" لم تقترح على" شاهيت" تلك الصفقة إلّا لأنّه تركيّ، وبالتالي ما يرسم حدود الجماعة المتخيّلة هو الذكر التركيّ، وليس الأنثى وموقعها، فأهل" سيبيل" لن يقبلوا بغير التركيّ زوجًا، وبالتالي فتلك" الصفقة" أتاحت لـ"سيبيل" هامش حركة أكبر داخل الفضاء الذكوريّ المهيمن وهو الجالية التركيّة، كما يمكننا أن نفهم من ردّ فعل سائق الحافلة العامّة، وهو يستمع إلى راكبي حافلته( سيبيل وشاهيت) يتناقشان بتفاصيل" الصفقة"، وهو ما لم يستثيره إلّا حينما علم أنّهما أتراك، فقرّر طردهما من الحافلة، برغم ردّ فعل" شاهيت" أنّها حافلة تخصّ" مجلس المدينة"(!!!).
صفقة تبادليّة؛ أجساد متذرّرة في مقابل أجساد عنيفة
تأسّست بتلك" الصفقة" علاقة تبادليّة جسديّة، لا يمكننا إلّا أن نلاحظ من خلالها حالة من التقابل بين التذرّر والعنف الواقعين على الجسدين:
فـ"سيبيل" "تذرّر" جسدها في علاقات جسديّة و/أو جنسيّة عابرة، بمنتهى التسرّع واللامنطقيّة، وقد حدّدت ذلك هدفًا منذ البداية. وكأنّ تذرير الجسد في هذه الحالة معادل موضوعيّ لما عاناه الجسد من هيمنة ورقابة وهندسة( اجتماعية وجسديّة) من مراكز السلطة المتعدّدة الواقعة عليه( الأب، الأخ، العائلة، الثقافة، الجالية...)، فيُذرّر باعتبار ذلك ردًّا لفعل، لا يكسر ولا يقاوم السلطة الواقعة عليه.
أما "شاهيت" فكلّ المشاهد الجنسيّة التي احتوته، كانت عنفية إلى حدّ مفرط، ومثير للاستغراب، ما يحقق أولى وأبسط وأكثر تعاريف العنف بدائيّة وهو" اختراق الجسد"، حتى في مشهد رقصه دامي اليدين، لم يملك الحب لدى "شاهيت" المركز/الذكر إلّا أن يكون بهذا العنف، تعبيرًا عنه، نظرًا لأنّ شاهيت فاقد للسيطرة على مناحي حياته، وبالتالي فالسلطة– سلطته- وأنويّته( من "الأنا")، غير متحقّقة إلا بتلك الصورة البدائيّة للعنف، فلا معنى لها إلّا أن تكون عنفيّة.
وبين الإشارة المطموسة لـ"تذرّر" جسد "سيبيل" حيث لا تظهر في أيّ مشهد جنسيّ من تلك العلاقات العابرة المتشظيّة، من ناحية، ومن أخرى مشاهد" عنف" جسد "شاهيت" الفجّة والمثيرة للغرابة، تغدو قابلة للفهم والتحليل مشاهد الحب بين "سيبيل" و"شاهيت"، وماحملته من هدوء وسلاسة، وأريحيّة وشبق تتسامى فيه وتتّحد حدود الجسد والعاطفة، فلا نرى مشاهد السلطة الجندريّة في ممارسة الحب بينهما، فلا الذكر مسيطر، ولا الأنثى خاضعة، بل حالة حوارية عشقيّة تتكرّر في مشاهد الحب بينهما باختلاف مواقعها في السرد.
الحيّز العامّ والخاصّ
بعد عودتهما من حفل زفافهما، وبمجرد دخولهما المنزل فرحيِّن منتشيين، سألت "سيبيل" "شاهيت" عن زوجته المتوفاة، لينفجر فيها بمنتهى العنف، ويطردها خارج المنزل، فتبيت ليلتها الأولى كعروس في أحضان شاب غريب، بهذا تأسّس مشهد السلطة الأوّل بينهما ، فـ"شاهيت" بعنفه يحمي حيّزه الخاصّ من اقتحام "سيبيل" له، وذلك عن طريق تذرير جسدها( مشهد عودتها صباحًا فرحة يشي بالكثير!!).
التقسيم المكانيّ/الحيّزيّ في السرد بين العامّ والخاصّ، واضح وجليّ، ويأكّد دائمًا عليه، لضمان ديمومة وفاعليّة القوى الجندريّة، فقراءة تراسيم المنطقة الطرفيّة بين العامّ والخاصّ، تمكّننا فهم القوى والسلطة وأنماط العنف الواقعة عليها.
ثمة حالة من القطبيّة التقابليّة بين الخاصّ/الداخل/المؤنّث، والعامّ/الخارج/المذكّر، وأيّ خروج عن تلك التقابليّة، هو تهديد أو تماهٍ معها. فمنزل "شاهيت" والذي يعتبر حيّزًا خاصًّا نرى عليه حالة من البؤس والفوضى والقذارة، التي يتبدّد بمجرد دخول" سيبيل" إليه، ما يعيد إليه رونقه وقابليّته ليكون مكانًا معيشيًّا كريمًا، ولكن حتّى ذلك لم يضمن لـ"سيبيل" الدخول في المزيد من الحيّز الخاصّ معنويًّا في حياة "شاهيت"، إذ أنّ سؤالها عن زوجته السابقة، دفعه لطردها من حيّزه الخاصّ. هذا التقابل بين منزل "شاهيت" قبل وبعد "سيبيل"، يؤكّد موضعة الأنثى في الحيّز الخاصّ/المنزل، باعتبارها مكانها الأنسب جندريًا، وذلك دون المساس بالسلطة الذكوريّة( الفحوليّة) التي أنشأت وهندست الحيّز الخاصّ والعامّ.
يمكن استشراف البنى الجندريّة في الحيّز الخاصّ والعامّ، بالمقارنة المزدوجة بين "سيبيل" وأمّها من ناحية، و"سيبيل" وقريبتها "سلمى" من ناحية أخرى؛ ففي الأولى تبدو والدة "سيبيل" التي غذّت فيها الحب والأمومة دون الاصطدام بالبنية الذكوريّة الأبويّة والأخويّة( وكلتاهما تنويعات بطريركيّة)، فيمكن أن نستشفّ كيف أن أمّها تحبّها وتحميها وليست على استعداد للتّخلي عنها مقابل صحّة الثقافة والأعراف كما فعل الأب والأخ، ولكن أيضا دون اصطدام تفكيكيّ حاسم مع البنى الفحوليّة المسيطرة، التي ضمنت بقاء الأمّ في الحيّز الخاصّ منزوعة السلطات والقوى.
ومن ناحية أخرى نرى" سلمى" قريبة "سيبيل" والتي تقدّم في قالب ذكوريّ، فهي ناجحة في عملها، ولكنّها مطلقة، وهي تصرّ على التأكيد وذكر ذلك في السرد أكثر من مرّة، وكأنّها ترسل رسالة أنّها بالذكورة تحرّرت من الذكورة المسيطرة على الحياة الخاصّة، والحيّز الخاصّ. فنجاحها في العمل العامّ يستلزم تخلّيها عن أنوثتها، لتدخل عالم الرجال الذكور، وتتلبّس لبوسهم في الفضاء العامّ، فنراها في ملابس أقرب ماتكون ذكوريّة، ونراها حتى في بيتها تمارس الرياضة، وهي حاضرة بإظهار السلطة، بأن تعطي الأوامر في العمل، باعتبارها موقعًا مركزيًا في الفندق الذي تعمل به، وتحلم بامتلاكه، فلا يمكن تجاهل كيف أعلنت عن نفسها بمنتهى القوة في حفل الزفاف، وكأنّها تعلن لـ"شاهيت" بمركزيّة مقابِلة لمركزيّته في الحفل/العلاقة/الصفقة: "أنا هنا"، وهو ما أثار توتّره. لعلّ مشهد الصدام بين "سيبيل" و"سلمى" هو مشهد شارح، حين انفجرت "سيبيل" قائلة لها: "حياتك عمل، عمل، عمل، لاعجب أنك مطلقة"، لتردّ عليها "سلمى" ردًا ذكوريًا عنيفًا، وتصفعها.
هذه التراسيم بين العامّ والخاصّ، يمكن أن نرى أثرها على "سيبيل"، فهي تهرب من أخيها في الشارع، الشارع مكان عامّ تهندسه سلطة الذكر الألفا( متمثلها في الفرد أو/و الدولة)، لذا لا يمكنها مواجهته، وحينما تذهب لتبيت وتختبئ في منزل صديق" شاهيت" (بعد سجن الأخير لأنّه قتل صديقه "نيكو" في "جريمة شرف/غيرة")، يظهر التأكيد على "تخصيص" مكان لها في حيّزه الخاصّ/بيته، بأن علّق ستارة فاصلة بينه وبينها.
لتلك التراسيم– أيضًا- أثرها على الجسد، فلِكي تستطيع "سيبيل" العيش والعمل في إسطنبول( التي هربت إليها) عليها أن تتلبس لبوسًا ذكوريًا، فنراها قصّت شعرها، وارتدت بنطالًا. إلا أنّ حدود المركز/الذكر والطرف/الأنثى هاهنا، تختلّ، فهي لا تحتمل نمط المعيشة هذا، فتبحث عن المخدرات والحياة المتذرّرة التي اعتادتها، إلى أن تُغتصب ويُعتدى عليها ضربًا، بشكل عنيف، يصل إلى حدود الطعن، وهنا تتكثّف وتلتحم تمظهرات العنف الجندريّ:
1. يغتصبها صاحب الحانة، الذي أَمّن لها المخدرات، وبالتالي يتذرّر جسدها في علاقة جنسيّة عنيفة.
2. يُعتدى عليها بالضرب والطعن، من مجموعة من الذكور في أحد الشوارع باعتبارها خرجت من الحيّز الخاصّ، حيث يجب أن توجد كلّ أنثى، إلى الحيّز العامّ الذي هو حيّز فحوليّ.
بالاغتصاب/التذرير/العنف/القتل/الضرب، تتعاظم السلطة القمعيّة الواقعة على جسد وشخص "سيبيل" ووجودها، وهي اللحظة التي تستغلها الذكورة أيضًا في خلق بطل ذكر آخر، في استمرار لاستحواذ البطولة ذكوريًا، حيث يظهر سائق تاكسي (يبدو أنّه) هو من سينقذها، ويتوقّف وجود "سيبيل" في السرد ها هنا إلى حين.
سؤال الخيانة الفحوليّ، في مواجهة سؤال الأمومة الأنثويّ
يخرج "شاهيت" من السجن، بعد أن قتل صديقه "نيكو" على أثر"جريمة شرف/غيرة"، ويعلن قطيعة مع حياته السابقة، ويعزم على أن يغدو شخصًا جديدًا، فيذهب للبحث عن "سيبيل" التي أحبّها ووعدته بأن تنتظره، فيسافر إلى إسطنبول لتدلّه عليها "سلمى"، وتخبره( في مشهد تناطحيّ ذكوريّ) أنّ "سيبيل" غدت سعيدة مع "صديقها" وأصبحت أمًّا لطفلة صغيرة. إلّا أنّ "سيبيل" تعلم من "سلمى" بوجوده فتأتيه ويمارسا الحب، في مشهد من أكثر مشاهد الحب نضوجًا وتحرّرًا في السرد قاطبًا، في تأكيد على تسامي الحب، على السلطة والهيمنة. إلّا أنّ "شاهيت" يطلب منها أن تنتقل للعيش معه، ويتّفقا أن يتقابلا في اليوم التالي في محطة الحافلات، لينتقلا إلى "ميرسن" مدينته الأمّ.
تتراكم العقد والتشظّيات الخاصّة بالشخصيات في السرد لدى المتلقي\\ ة، عندما ينتهي السرد/الفيلم بمشهد "شاهيت" في الحافلة وحيدًا، إذ أنّ "سيبيل" لم تأتِ. هنا لا يمكن للمتلقي/العين الثالثة أن يكون موقفًا متعاطفًا مع "شاهيت" الذي دفع حريّته في السجن ثمنًا لحبّه لـ"سيبيل"، وقبل ذلك قبوله بتلك الصفقة المجنونة، دون أن يتعاطف في المقابل مع "صديق سيبيل" الذي أنقذها من حياة محطّمة ومتشظيّة بين علاقات جنسيّة عنيفة ومتذرّرة، وإدمان على المخدّرات والمشروبات الكحوليّة والضياع، بل أنّه "أهداها بنتًا" (العبارة في ذاتها ذكوريّة!!!)، فيغدو سؤال الخيانة سؤالًا مفهومًا:
إن قبلت "سيبيل" بعرض "شاهيت" وذهبت معه، فهي بذلك "تخون" من أنقذ حياتها، وإن رفضته وتمسّكت بحياتها الجديدة برغم كل هذا الحبّ، الذي أكّدته مشاهد الحب الأخيرة بينها وبين "شاهيت"، فهي بذلك "تخون" من دفع حياته ثمنًا لهذا الحبّ( حبّه لها، وحبّها له) وهو من وعدته بأن تنتظره.
تلك البنية من "سؤال الخيانة"، هي بنية فحوليّة بامتياز، فهي تنتصر للمركز/المذكر على حساب الطرف/المؤنث، وبالتالي فأيّ موقف من هذه المواقف التي قد يتخّذها المتلقي\\ة في استجابته لسؤال "الخيانة" هو موقف فحوليّ متحيّز، قائم على منظور وأساس ذكوريّ، يضع الذكر في مركز القيمة، والأنثى موضوعًا لها، مستفيدًا من أنساق وسياقات متعاضدة مختلفة إلّا أنّها كلّها ذات بنًى ذكوريّة مؤسّسيّة: مؤسّسة الزواج، تبادليّة الصفقة.
في هذا المرحلة المتتشظّية من السرد، والتي تصل إلى حالة من تضادّ الرؤى، ما يجعل حسم سؤال الخيانة الذكوريّ غير ممكنًا، هو استخدام بنية أخرى مقابلة ومعادلة ومفكّكة لتلك البنية الذكوريّة السابقة إذ تعكس كل أركان عمليّة السلطة، وهي الأمومة وسؤالها:
موقف "سيبيل" موقف أموميّ، فهو مبنيّ على الإيثاريّة، والإيثاريّة التي تنبني على الطرف/الآخر، هي نقضيّ الأنويّة الذكوريّة التي أسّس لها سؤال الخيانة الفحوليّ. "سيبيل" آثرت ألّا تغامر بحياة ابنتها، وجعلت منها نبراسًا لمفهوم مقاومة الفحولة القمعيّة وسلطتها التي قمعت حياتها كاملة، ففي مشهدها الأخير وهي تستمع إلى صوت ابنتها وهي تلعب مع والدها، يرسل لنا السرد مشهدًا أموميًّا بامتياز، فـ"سيبيل" تخشى على ابنتها من حياة عاشتها، بين ذكرين قمعيّين(الأبّ والأخ) لم يكن هناك أيّ حوار بينها وبينهم على طول السرد/الفيلم إلّا حوار المصحّة النفسيّة، بين تأنيب وتهديد ، وليس" لعب ومرح" كما هو الحال مع ابنتها ووالدها كما نسمعه صوتًا في المشهد الأخير.
الإجابة على "سؤال الخيانة الفحوليّ" السابق أيًّا كانت إجابته( لصالح "شاهيت" أو "صديق سيبيل") تقوم باعتبارهما مركزًا فحوليًا، ما يستلزم عنفًا قيميًا رمزيًا( قد يكون مضاعفًا في بعض الحالات)، واقعًا على "سيبيل" باعتبارها طرفًا لكلا المركزين؛ أيّ أنّه امتداد لهيمنة الذكر وسلطته المركزيّة، ولكنّ بصورة قيميّة، تدين كلّ أو نصف مافعلته "سيبيل" لكليهما، فـ"شاهيت" أنقذَته من حالة الضياع التي كان بها، التي كادت أن تقتله، فيما منَحت "صديقها" عائلة– يمكن القول بأنّها- سعيدة.
المعادل الموضوعيّ، لهذا القمع الذكوريّ وسؤال الخيانة المتحيّز، هو إحالته إلى "سيبيل" بعد موضعتها في المركز، ليصبح: "أين تخون سيبيل نفسها؟". (هذه الصياغة لم أتمكن من الوصول إليها، لولا تدخل أنثوي أدين له بشدة).
شخصيّة الابنة هي شخصيّة محوريّة وهامّة على بساطة حضورها في السرد والصورة، فهي مركز القيمة في الحكم على الخيانة من عدمها، بوجودها وبحماية "سيبيل" لها، تستعيد الأنثى مركزيّة موقفها وقدرتها على السيطرة على مقدرات حياتها، وحريّتها وإعادة تشكيلها بالمقاومة، في مواجهة كامل أنماط الذكورة المركزيّة وأنساقها التي قد تنبثق من كلا المركزين الذكورييَّن.
(ملاحظة على الهامش: ورد في إحدى ترجمات الفيلم ترجمة لاسمه: "في مواجهة الحائط"، ونراها مناسبة ومعبرة)